عزله مرضه عن العالم الخارجي إثر إصابته بجلطة مخية منذ عام تركت آثارها على النطق والحركة، لكن حالته تحسنت وأصبح قادرا مرة أخرى على الحراك والكلام المثير للدهشة والإعجاب والداعي إلى التفكر والتعمق في الكون.
مصطفى محمود
آثار تدهور صحته تبدو على وجهه، لكنه يتحامل بقوة الإيمان، وبعلمه الغزير كطبيب سابق وباحث في أسرار ما وراء الطبيعة والظواهر الغامضة. ومع خضوعه للعلاج بالأساليب الطبية التقليدية، إلا أنه لا يغفل وسائل أخرى وردت في السنة الشريفة، فمثلا استقبل مؤخرا في شقته المطلة على مسجده الشهير "مسجد محمود" ومركزه الخيري في حي المهندسين الراقي، بضعة رجال سوريين يعالجون بالحجامة، لعل هذا العلاج يخفف عنه بعض الآلام التي يشعر بها.
ورغم المرض لا يزال الدكتور مصطفى محمود يحتفظ بابتسامته التي طالما أحببناها لسنوات واطل علينا بها عبر شاشة برنامجه الشهير "العلم والإيمان". ترعاه ابنته السيدة "أمل في شقته التي تقف أمامها حراسة أمنية"، وهم يقولون انهم معينون لحراسته في الوقت الذي يزعم فيه البعض انهم يراقبون كل من يتردد عليه.
دكتور مصطفى محمود أو مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ من الأشراف (سلالة النبي صلى الله عليه وسلم) وينتهي نسبه إلى علي زين العابدين، وهو ما تثبته شهادة نسب معلقة علي جدران منزله المتواضع الأثاث، جاء إلى الحياة مع توأمه بعد سبعة شهور فقط من الحمل في 27-12-1921 في مدينة طنطا إحدى مدن الدلتا، شمال مصر.
متفوق أم متسرب؟!
بدأ حياته متفوقاً في الدراسة إلى أن ضربه مدرس اللغة العربية فاكتئب ورفض أن يذهب إلى المدرسة، مما أدى إلى تعثره في الدراسة لمدة أربعة أعوام، وما إن رحل ذلك المدرس عن مدرسته، حتى عاد مصطفى إليها وبدأت تظهر موهبته وتفوقه وحبه للعلم!
وفي منزل والده أنشأ معملا صغيرا وأخذ يصنع الصابون والمبيدات الحشرية التي يقتل بها الصراصير ثم يقوم بتشريحها. وفيما بعد حين التحق بكلية الطب أُشتِهر بـ"المشرحجي" نظرا لوقوفه طوال اليوم أمام أجساد الموتى طارحا تساؤلات حول صاحب هذا الجسد والرهبة المحيطة بالموت.
تخرج في كلية الطب متفوقاً ورغم احترافه الطب، إلا انه كان نابغا في الأدب، مما دفعه لاحتراف الكتابة منذ كان طالبا بكلية الطب، وكانت تنشر له القصص القصيرة في مجلة "روز اليوسف" التي عمل بها لفترة بعد تخرجه، كانت هذه المجلة حينها تعج بالكتاب أمثال احسان عبد القدوس وصلاح جاهين وغيرهم.
حياة زوجية مضطربة
وقد أثرت حياة د. محمود العملية والأدبية على حياته العائلية فرغم أنه تزوج وأنجب "أدهم وأمل" إلا أنه لم يستطع التعامل مع الحياة بشكلها المادي من طلبات زوجية ومسؤولية أبناء وحياة اجتماعية، فانفصل عن زوجته، وبعد فترة تزوج من سيدة أخرى لمدة لم تزد عن عامين، ومنذ تلك اللحظة قرر ألا يخوض تلك التجربة مجددا، وأن يتفرغ للعلم والتأمل والكتابة وعبادة الله.
و رغم انفصاله عن أم أبنائه إلا انه لم يقصر في حقهم، وكان دائما يأخذ أبناءه يومي الخميس والجمعة ليقيما في حجرة اختص بها نفسه في مسجده. مكث مفكرنا بتلك الغرفة خمسة وعشرين عاما يشيد المسجد الذي اشترى أرضه من عائد بيع أول كتبه "المستحيل".
قوتي حب الناس
ظل دائما زاهدا في الحياة، يعتبرها رحلة سفر مهما طالت، فهي ثوان في عمر الزمن ولا أحد يستطيع أن يدعي أنه مقيم فيها، ولذا لا يلزمنا منها إلا الضروريات. حينما سألته عن نشاطه الآن أجاب: "قلّ نشاطي وبدأت أهمد".. ثم ضحك وهو يضيف: "القراءة عندي اكثر من الكتابة، والتفكير اكثر من العمل، ولا زلت أستلهم قوتي وإبداعي من حب الناس ".
وعلى الرغم من التحولات من الشك إلى اليقين.. ومن الإيمان إلى الزهد، ومن اليسار إلى اليمين، ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية.. كان هناك دوما مصطفى محمود بملامح ثابتة، وجاء بعد ذلك ليعلن رفضه كل تلك النظم والتحولات، مؤكدا شيئا واحدا هو إيمانه بالله الواحد الأحد، وبالقوانين التي وضعها، وأن حياته هي رحلة مختصرة للبحث عن الحق. وفي ذلك قال عنه الكاتب والشاعر الراحل كامل الشناوي ذات يوم بجريدة الجمهورية "إذا كان مصطفى محمود ألحد فهو يلحد علي سجادة"..
العلم والإيمان حياته
كان صديقا شخصيا للزعيم الراحل أنور السادات ولم يحزن في حياته اكثر من حزنه على مقتله وهو هنا يقول: "كيف لمسلمين أن يقتلوا رجلا رد مظالم كثيرة وأتى بالنصر وساعد الجماعات الإسلامية ومع ذلك قتلوه بأيديهم". وكان السادات قد عرض عليه أن يكون وزيرا، لكنه رفضها فهو رجل لا يبحث عن السلطة أو يهوي المناصب كما يقول.
أطل علينا من خلال الشاشة الصغيرة ببرنامجه الشهير "العلم والإيمان"، وحينما جاءته الفكرة كان تنفيذها علي أرض الواقع غاية في الصعوبة لأسباب مادية، لذا بدأ اليأس يتسرب إلى نفسه حتى قابل رجل أعمال شهيرا فحدثه في أمر البرنامج، فإذا به يخرج دفتر الشيكات، ودون أن يحدد المبلغ يوقع علي بياض، قائلا له: "لن أناقشك في النفقات، ولكن المهم خروج هذا العمل العلمي والديني إلي النور.
وإذا كان الدكتور محمود اتجه في البداية إلى العلم فقط، فلأنه تصور أن العلم يمكن أن يجيب عن كل شيء، وان العالم المحسوس يمكن ان يفسر كل شئ، وعندما خاب ظنه مع العلم، أخذ يبحث في الأديان بدءا من الديانات الأرضية الهندية والزرادشتية والبوذية، ثم في الأديان السماوية، ولم يجد في النهاية سوي القرآن الكريم الذي يضم بين دفتيه تفسير كل شئ...
أمريكا النصابة!
وعندما سألته عن أحوال العرب الآن أبدى حزنه علي حالة العزلة الثقافية المحيطة بالعالم العربي، واللهاث وراء عملية النصب الكبرى التي تدبرها أمريكا للعالم تحت مسمي "العولمة والتغيير". وفي رأيه أن الولايات المتحدة الأمريكية تحمل بداخلها بذورا متناقضة قد تؤدي بها إلى نفس مصير الاتحاد السوفيتي.
ورغم اتهام منتقديه له بأن مواقفه السياسية متضاربة لدرجة تصل إلى حد التناقض في بعض المواقف، إلا انه لا يري ذلك ويؤكد أنه ليس في موضع اتهام، وأن اعترافه بأنه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة علي نقد الذات، وهذا شئ يفتقد إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور الذي يصل بهم إلى عدم القدرة علي مواجهة أنفسهم والاعتراف بأخطائهم
هاجم الشيوعية ويهاجم الآن الديمقراطية الأمريكية معللا ذلك بأن الشيوعية أثبتت فشلها وها هي قد سقطت، أما الديمقراطية فهو لا يهاجمها في حد ذاتها، وإنما يهاجم الديمقراطية الهشة المزيفة التي تريدها الولايات المتحدة الأمريكية بعناصر ورموز ومجموعات مصالح.
وله رأي خاص في شأن السياسة الأمريكية الآن، إنها تسعي لتأسيس امبراطورية علي النمط الروماني القديم، وهذا ما تأكد بعد انهيار النظام الشيوعي وهو ما تأكد اكثر بعدما اتخذت أمريكا أحداث 11 سبتمبر ذريعة لاجتياح أفغانستان والعراق.
لا ينكر الدكتور مصطفى محمود أن المجتمع الأمريكي حقق تقدما هائلا تكنولوجيا واقتصاديا، ولكن هذا التقدم أعماهم عن أن الإنسان كائن ضعيف محدود القدرات مهما بلغ من التقدم والرقي، ولعل النظام السياسي بالولايات المتحدة الأمريكية خير دليل على ذلك، حيث نجده يعتمد علي تحالف ضيق من أصحاب رؤوس الأموال ومؤسسات الإعلام وشركات السلاح والنفط.
وبالرغم من أن هذا المجتمع يقوم على أساس نظري ديمقراطي إلا انه ليس بوسع أي شخص أن يصبح رئيسا للولايات المتحدة، ولا عضوا في الكونجرس الأمريكي، حيث يلعب رأس المال وتكتلات المصالح السياسية والاقتصادية دورا حاسما في هذه المسألة.
حزين على العرب
ويعرب عن حزنه للموقف العربي المتخاذل وسلبيته والتي يرجع السبب فيها لغياب الديمقراطية الحقيقية ووجود فجوة بين الشعوب والحكام مما لا يتيح لهم الاتحاد وهذا شئ خطير. ورغم سوداوية الصورة يقول د. مصطفى بتفاؤل: لا تعول علي الظاهر فسيأتي العدل قريبا، وربما ما يفعله الطغاة هو خير لنا كي نجتمع ونتحد، وكل ما ينقصنا لحدوث هذا العدل هو وجود ديمقراطية بصيرة.
ولعلنا نتذكر جميعا أن أول من بشر بزوال دولة إسرائيل هو نفسه د.مصطفى محمود رغم أن كل الشواهد تؤكد عكس ذلك، ولا يزال مصرا علي أن هناك أدبيات كثيرة معظمها يستند إلى أدلة دينية تؤكد حتمية زوالها..
وأن ما نراه من هرولة بعض الدول في اتجاه إسرائيل سواء دولا عربية أو إسلامية، ربما يكون من قبيل إدارة الصراع بين هذه الدول وإسرائيل، أو أن بعضها يتخذ من إسرائيل وسيلة للحصول علي رضاء أمريكا او تجنب نقمتها في الفترة الراهنة.
إلا أن مصطفى محمود يرى أن زوال إسرائيل مرهون بحدوث الصحوة العربية والانتباه للخطر الداهم الذي يهدد الجميع.