الجزء الثالث إنسانة مختلفة
بعد التعنيف القوي الذي لقياه لم يعودا لمشاجراتهما بل بدآ في التعامل برسمية زائدة عن اللزوم حتى أن نبيل كان يسخر منهما...كان الكل جالس على مائدة الطعام عندما قال نبيل لهما:
- لم يعد ينقصكما إلا أن تناديا بعضكما بالسيد نادر و الآنسة ملك لتكونا أغراب من الدرجة الأولى.
نظر له عمه:
- معك حق.
و اكتفى بتسديد نظرة عدم رضا لنادر و ملك التي وقفت:
- هيا يا نبيل لتوصلني للشركة.
اعترض والدها:
- لكنك لم تكملي فطورك بعد أيتها الصغيرة.
حملت حقيبتها ثم قبلته:
- أنت تعلم أنني لم أعد شرهة كما كنت عندما كنت صغيرة بخلاف بعض الناس....
نظرت لنبيل وضحكت ثم شدته من يده:
- هيا لتوصلني.
نظر لها نادر:
- و سيارتك أين هي؟
ردت عليه بخشونة:
- في المرآب لكنني لا أريد أن أقود السيارة اليوم.
- هذا أفضل فقيادتك المتهورة قد تقتلك ....كلما قللت من استخدام سيارتك كان ذلك أسلم لكِ و للناس في الشوارع.
نظرت له بغضب:
- عن أي قيادة متهورة تتحدث...
قاطعها:
- لا تجادلي إن صرير عجلات سيارتك يصلني و أنا في مكتبي.
ارتبكت:
- إنني...إنني أكون مستعجلة.
- مستعجلة على العودة للمنزل؟ إنك تحبين البقاء في العمل لأطول وقت ممكن.
نظرت له تبحث عن كلام تقذفه به لكنها لم تجد فقالت لنبيل:
- هيا يا نبيل قبل أن أقرر أن آخذ سيارتي و أدهس شخص معين .
أنّبها والدها:
- ملك!!!
واتسعت عينا نادر دهشةً بينما قهقه نبيل ضاحكاً:
- إنه لا يُدهس بسهولة...هيا يا ملوكه أراكما في الشركة أيها العجوزين.
*********************
دخلت ملك مكتب والدها فوجدته مهموم... شارد و فكرت أنه في هذا المزاج منذ الصباح ترى هل ذلك بسبب صداماتي مع نادر؟ لكنها عادت و استبعدت ان يكون هذا السبب لأن الأمر يتعدى ذلك.
اقتربت من مكتب والدها و جلست عليه ....طرقت على المكتب فانتبه لوجودها:
- أهلاً... كيف حالك يا صغيرة؟
- اهااا الآن انتبهت لوجودي... أخبرني الآن ما بك؟
- انزلي من على المكتب و كفي عن هذه التصرفات الصبيانية إنها لا تلائم شابة مثلك.
- حسناً سأنزل شرط أن تخبرني.
سألها بنفاذ صبر:
- أخبرك بماذا؟
- بما يشغل بالك .
بعد نصف ساعة صمت والدها و استند إلى مقعده:
- هذا هو كل الموضوع.
- لا تقلق يا أبي اتركه لي.
نظر لها بتشكك فقالت:
- أبي قلت لك اتركه لي... دع ما تعلمته خلال أربع سنوات في هارفرد يعمل.
قبلته ثم توجهت للخارج فسألها:
- إلى أين؟
- إلى العمل يا والدي العزيز.
بعد أن خرجت توجهت مباشرة إلى مكتب ذلك اللعين الذي يسبب القلق لوالدها و بعدما انهت حديثها معه ذهبت لمكتب نادر، حيّت سكرتيرته التي أجابتها بإشراق و تركتها تدخل كالعادة بدون أن تبلغ نادر.
رفع نادر رأسه من على مكتبه:
- ألن تتعلمي أبداً طرق الأبواب.
- طالما هو بابك فلن أتعلم أبداً الطرق.
أشار إلى مقعد:
- اجلسي و أخبريني أي رياح حملتك إلى مكتبي.
- رياح الاختلاس.
رفع رأسه بسرعة عن الأوراق التي يعمل بها ثم أزاحها جانباً:
- لقد أخبرك إذن؟
- هل نسيت أنني محامية؟.... لا يصعب علي استجواب ايّا كان فما بالك بوالدي.
- مازلت أشك في هذا الأمر.
- أي أمر؟
أنكِ محامية... لكن في ما يخص عمي فأنت محقة لطالما كنتِ تديرينه كالخاتم في إصبعك رغم أنه من أقوى الشخصيات التي عرفتها في حياتي.
قالت بغضب:
- تشك أنني محامية؟ حسناً يا ذا الوجه العبوس...دعنا لا نتشاجر الآن...بعد أن تنتهي المحاكمة و نربح الدعوى سنكمل شجارنا.
سألها:
- أي محاكمة و أي دعوى؟ يبدو أنك لم تفهمي كلام عمي أم أنه لم يخبرك بكل التفاصيل.
- بل أخبرني أيها المتحذلق و فهمتها جيداً فهارفرد لا تمنح شهادتها للأغبياء كما أنني ذهبت لمكتب ذلك الخسيس "ناصر" و تحدثت معه.
- حقاً؟ هل ذهبت و تحدثتي معه؟ إنك رهيبة؟
- نعم ذهبت و أوضحت له ما ينتظره... إنه لا يستحق خوف والدي عليه سواء كان عنده عائلة أم لا فهو يستحق العقاب على اختلاسه من الشركة... لا و فوق ذلك يهدد و يتبجح بعدم وجود الأدلة لسوف أخترعها له و عندما انتهي منه سوف يندم على أنه فكر في يوم من الأيام أن يسرق من والدي قرش واحد ذلك الوغد.
نظر لها نادر بدهشة.... من هذه؟ هل هذه ملك حقاً؟ إنها إنسانة مختلفة.
انتشلته من دهشته:
- كما أنني سأفتح موضوع مناقصة الحديد.
- صدقيني لن تملكي دليل على تواطؤه مع الشركة المنافسة و مساعدتهم على أخذ هذه المناقصة منا و تسريبه للمعلومات.
قالت بإصرار:
- راقبني و سترى.
*********************
عملت ملك ليلاً نهاراً لمدة أسبوع داخل مكتبها و خارجه، لم تكن تعود إلى المنزل إلاّ في وقت متأخر حتى أن نادر هددها بسحب القضية منها لو استمرت على هذا المنوال و لدهشته لم تعارض أو تشاكس بل وافقت في صمت.
لم يتبقى على المحاكمة إلاً يوم واحد و كانت ملك على عكس التوقعات هادئة بصورة كبيرة و بالرغم من أن القضية كانت من أكبر القضايا التي مرت بها الشركة لأنها ستكشف أمور كثيرة إلاّ أن ملك كانت تتصرف كمن يمسك بزمام الأمور جيداً.
مر نادر على مكتب ملك و دخل دون أن يطرق الباب فضحكت:
- يبدو أنك تسير على دربي.
ابتسم:
- ها أنا أحاول... أراكِ ترتبين أوراقك هل انتهيت من العمل ؟
- نعم لقد صار كل شئ جاهز للغد.
- جيد لقد كنت أظن أنني سأنتظر طويلاً.
- لماذا تنتظر؟
- لنعود للمنزل.
سألته:
- و نبيل أين ذهب؟...ذلك النذل لم ينتظرني؟
ضحك:
- ها أنت تخرجين من ثوب المحامية المحترفة لتظهري على حقيقتك.
- أي حقيقة؟
نظر إلى عينيها و قال بحنو:
- ملك الصغيرة التي كنت أركض وراءها لأتأكد أنها لن تقتل أحد الصبية.
نظرت إلى عينيه...هذا ما كان ينقصني أن يبدأ نادر في معاملتي بحنان كما كان يفعل عندما كنت في السادسة من عمري لكي أقع مغشياً علي أمامه.
ساد الغرفة توتر كسره نادر بأن حمل أغراضها و تنحى جانباً في حركة مسرحية:
- هيا يا سيدتي.... السائق بانتظارك.
قهقهت ضاحكة و هي تمر به لكمته في كتفه:
- لا تقلد نبيل إن ذلك لا يليق بك يا ذا الوجه العبوس.
عندما انطلقا بالسيارة قال لها:
- كان أفضل شئ فعلتيه اليوم أنك لم تستعملي سيارتك فلا نريد لمحاميتنا أن تلقي حتفها قبل أهم قضايانا.
اعترضت:
- إن قيادتي ليست بهذا السوء.
- نعم لكنها بكل هذا التهور.... في الأيام التي تستقلين فيها سيارتك للعمل أظل على أعصابي حتى تصلي للشركة و كذلك اثناء عودتك للمنزل.
أحست بالسعادة لقلقه عليها لكنها أحست بسذاجتها فمن الطبيعي أن يقلق نادر عليها كما يفعل كل الأقرباء.
سألها:
- و الآن أخبريني ما هو شعورك و غداً تبدأ المعركة؟
صمتت مفكرة:
- شعوري؟ ممممم التأهب؟...التحفز.
ابتسم:
- ما رأيك بالقلق؟
- أتريد الصدق؟ لا أحس بالقلق أعلم أنني لن أستطيع النوم و أنا أفكر في ما سيحدث غداً و كيف سأنال من ذلك الوغد....
صاح بها كمن يؤنب طفل:
- ملك!!! لا تتحدثي بهذه الطريقة.
قالت بطاعة:
- حسناً.
التفت لها:
- يا إلهي ما كل هذه الطاعة هل أسميها الهدوء الذي يسبق العاصفة.
- إنني أوفر طاقتي القتالية للغد.
- جيد.... و الآن أخبريني و بجدية هل أنتِ مرتاحة لما ستقومين به؟ لا أريدك أن تنهاري من التوتر في المحكمة.
نظرت له بصرامة:
- لا لن أفعل ذلك... إنني أهل لهذه القضية و إن لم أكن كذلك لما طلبت من أبي أن يترك لي الأمور.
ابتسم:
- هل هذه الشاكية الباكية التي كانت تهرع إلي قبل كل امتحان لتشتكي لي من شبح التوتر الذي يطاردها...لقد تغيرتِ يا وجه الملاك.
نظرت له... لقد ناداها بوجه الملاك مازال يذكر ذلك الإسم الذي كان هو من اطلقه عليها لقد كانت أحب كلمتين على قلبها و لقد توقف منذ زمن عن قولهما و ها هو يعود الآن ليناديها ذلك الإسم أحست أنها لن تستطيع التفكير بشكل سوي.
قال بصوت عال:
- ملك أين ذهبتِ بأفكارك هل بدأتِ تعيدين التفكير في أمر التوتر إذا رغبت بالشكوى فكلي آذان صاغية يا وجه الملاك.
ضحكت:
- لا.... أشكرك يا ذا الوجه العبوس أخبرني هل ستكون موجود في المحكمة غداً.
- بالطبع ساكون موجود لأحضر مرافعتك الأولى في أرض الوطن.
هددته ممازحة:
- يستحسن بك أن تكون موجود.
مازحها على غير عادته:
- سوف أبدأ في الاعتقاد أنك تتفاءلين بوجودي أو أن وجودي يشعرك بالأمان.
نظرت إلى جانب وجهه المبتسم و قالت بصوت شارد:
- بالرغم من أنك لن تصدقني إلاّ أن ما تقول صحيح... أنا نفسي لا أصدقه لكنه صحيح.
ادهشه كلامها فالتفت لها نادر فوجدها تنظر من النافذة إلى الخارج.
*********************
كانت محاكمة قوية انتهت بضجة إعلامية كبيرة....كان نادر ما زال على ذهوله الذي تملكه منذ رآى ملك و هي تدخل المحكمة لتنقض على الشهود واحداً تلو الآخر و تختم بالمدعو ناصر و تثبت اختلاسه و تواطؤه في الكثير من الصفقات المشبوهة لصالح شركات كثيرة و كل هذا على حساب الشركة التي يعمل بها _شركة والدها_ و كل هذا وسط ذهول كل من في المحكمة حتى ناصر لم يكن يصدق ما يحدث أمامه...حتى القاضي تأثر بطريقتها الرائعة.... مشيتها السريعة و تقافزها الذي يشبه تقافز الأرنب و طريقتها العجيبة السريعة في الكلام و الحزم الذي كسا ملامحها و الذي يتناقض بشكل رهيب مع ملامح وجهها الصغيرة المشاكسة...اعترف نادر أن ملك صارت إنسانة مختلفة في نواحٍ كثيرة بالرغم أنها مازالت ذات الإنسانة الصغيرة الرائعة إلاّ أنها تغيرت كثيراً.
سارت ملك بين نادر و نبيل...كان نبيل يقوم بمنح الصحافيين جمل قصيرة لا تشبع فضولهم بل تزيده بينما أحاط نادر كتفي ملك بذراعه مجتازاً بها الحشود، عندما وصل ثلاثتهم إلى حيث السيارة وقفت ملك تنظر لنادر مبتسمة بسعادة فنظر لها متفحصاً ملامح وجهها التي تنضح بالفرح... ها هي عادت ملك القديمة تركها و انزل ذراعه بينما تقدم نبيل مبتسماً:
- ما رأيكما أن نخرج لنحتفل بنجاح ملوكه الصغيرة... لقد كشفت الكثير بالداخل أيتها الفتاة أظن أن بعد ما حدث لن يفكر أحد مجرد التفكير ان يسرقنا فيبدو أننا نملك المتحري الخاص بنا...حتى انك تشبهين المتحري كونان.
ضحكت:
- أما أنت فستكون واجهة الشركة في الصحف غداً.
عدّل ربطة عنقه:
- نعم... ما رأيك بي؟
ضحكت مرة أخرى:
- لا يوجد أسوأ من ذلك إنك لم تمنح المساكين اي معلومة مجدية.
ابتسم بمكر:
- إن هذا هو المغزى و الآن أكرر إقتراحي هيا لنخرج و نحتفل.
كان نادر يرمق اخيه و ابنة عمه بغيظ... إنهما يملكان انسجام لا يملكه هو في التعامل معها و ذلك ضايقه بشدة.
نظرت له ملك بتساؤل فقال:
- في مرة أخرى... سوف أذهب للمنزل لأنني أريد أن أستريح لأن عندي عمل كثير في الغد.
تركهما بعد ان قال:
- لا تطيلا السهر.
اشوفكم في الرابع يا غاليين